كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} واجهر به ولا ترعو من أحد، فاصدع بما آتيتك ولا تترك شيئا من الوحي أبدا {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} ما أمرت به كله وأبلغته لأمتك إذا {فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ} حق تبليغها، لأن من كتم شيئا فكأنما كتم الكلّ، فداوم على التبليغ ولا تخش أحدا مهما كانت قوته ومكانته {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ويحفظك ويمنعك من أن يصل إليك أذاهم.
والمراد بالناس هنا الكفرة لأنهم هم الّذين كانوا يريدون قتله ليتخلصوا منه، وهو إنما جاء لخيرهم رحمة لهم ونعمة عليهم وهم كثيرو الأذى عليه في القول والفعل وهو يقول اللّهم اهدهم فإنهم لا يعلمون وذلك بسائق شدة عداوتهم له ولذلك لم يهتدوا إلى ما جاءهم به من الحق {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} (67) لإنزال أي أذى فيك ويعمي أبصارهم من أن ينالوك بسوء كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا دعا اليهود إلى الإسلام يستهزئون به ويقولون تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النّصارى عيسى.
يريدون إلها، راجع الآية 13 من سورة مريم ج 1 فيسكت عن دعوتهم، وإذا أمر المنافقين بالجهاد وكرهوه أمسك عن أمرهم، وإذا سأله اليهود عن بعض الأحكام أحجم عن اجابتهم لعلمه أن سؤالهم عبارة عن تعنت ومكابرة فيضيق ذرعه من ذلك ويحجم عن إبلاغهم بعض الآيات لعدم ميلهم إليها، فشجعه اللّه في هذه الآية وأمره بلزوم تبليغهم ما يتلقاه من الوحي كله سمعوا له أو أعرضوا عنه وأن لا يبالي بما يراه من الصّدود والسخرية، وأعلمه بأنه هو الكفيل لحضرته من أذاهم وفقا لما هو مدون في لوحه المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير يقال إن حضرة الرّسول لما أوذي من قبل الكفار وشجّ وكسرت رباعيته في حادثة أحد نزلت عليه هذه الآية تشجيعا له مما أصابه، لأن هذه الآية بعد تلك الحادثة بسنتين، وسورة المائدة هذه من آخر القرآن نزولا، ولم تكن هذه الآية مسنثناة منها، إذ لم يقل بذلك أحد يعتد بقوله، ولا يوجد نقل صحيح فيه، ولا خبر واحد عدل أيضا، فهو قول واه وإن الإمام فخر الدّين الرّازي ذكر في تفسيرها عشرة آخرها أنها نزلت في فضل علي كرم اللّه وجهه، وعند نزولها أخد صلّى اللّه عليه وسلم بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقبه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وهذا قول ابن عباس والبراء ومحمد بن علي رضي اللّه عنهم.
تدل هذه الآية على أن حضرة الرّسول لم يكتم شيئا من الوحي، خلافا للأمامية القائلين بذلك من أنه كتم بعضه تقية، وحاشاه من ذلك، لأن الإمساك المار ذكره كان عن جماعة مخصوصين مكابرين آنفين لا عن غيرهم، ومع هذا قد أمره ربه بإبلاغهم وحيه.
روى مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت من حدثك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كتم شيئا مما أوحي إليه فقد كذب، ثم قرأت هذه الآية- أخرجاه في الصّحيحين- وفي رواية قالت لو كتم شيئا لكتم قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الآية 37 من سورة الأحزاب المارة في قصة زيد رضي اللّه عنه.
أما ما خصّ به من علم الغيب مما ليس بقرآن وقد تلقاه عن ربه بواسطة الأمين جبريل مما لا يسعه عقول النّاس إذ ذاك، فهذا مما لم يؤمر بتبليغه إذ لم يكن من القرآن، لأن وجوب التبليغ عليه مقصور على القرآن فقط لأنه له ولأمته، أما غيره مما أوحى إليه فمنه ما هو واجب إبلاغه للناس لتعلقه بهم، ومنه ما هو خاص به فقط، ومنه ما هو مخيّر بين تبليغه وكتمه.
قال تعالى: {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى} الآية 10 من سورة النّجم أي شيئا عظيما أوحاه إليه وأسرّه بأشياء جليلة لا تظهر لنا في الدّنيا بل حينما يعطي الشّفاعة الكبرى بالآخرة، وإنما لم يظهرها لنا لأنا قد لا نعيها ولا ندرك ما ترمي إليه، ولا نقدر أن نتصورها، وقد أشار سيد العارفين الامام زين الدّين الحديث الذي رواه البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال حفظت من رسول اللّه دعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني الحلقوم، وقال:
إني لأكتم من علمي جواهره ** كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن ** إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به ** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي ** يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقدمنا في سورة الإسراء ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه.
واعلم أن حضرة الرّسول لو أعلم أهل زمانه معنى قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} من هذه الطّائرات والسّيارات والكهرباء والرّاديو والهاتف والصّواعق والذرة وغيرها لما وسعته عقولهم، ولأدى ذلك إلى عدم إيمان بعضهم، ولو سمعوا منه ما هو أقرب من ذلك للعقل لو صموه بالسحر والكهانة ولم يصدقوه، اللهم عدا خواص الأصحاب كأبي بكر رضي اللّه عنه إذ صدقه بالإسراء وما رآه فيه، والمعراج وما وقع له فيه وهو أعظم من هذا، ولذلك سمي الصّدّيق، وقد ارتد بعض النّاس حينما قص عليهم ما كشف له في الإسراء والمعراج، مع أنه أظهر لهم الدّلائل عليه، فكيف لو أباح لهم بما هو من هذا القبيل؟ قالت عائشة: كان صلّى اللّه عليه وسلم يحرس فلما نزلت هذه الآية استغنى عن الحراسة.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت سخر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة، فقال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسنى اللّيلة، قالت فبينما نحن كذلك سمعت خشخشة السّلاح، فقال من هذا؟
قال سعد بن أبي وقاص، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له صلّى اللّه عليه وسلم ثم نام.
ويدل هذا الحديث على صلاح المؤمى إليه وكونه من أهل المعرفة والكشف وهو كذلك، وهو من عرفت حادثته مع أمه في إسلامه، وقد بشره الرّسول بالجنة، إذا فلا ينكر على بعض السّادة الصّوفية العارفين ما يخبرون به من هذا القبيل أسوة بذلك واللّه تعالى واسع الفضل يمن بما يشاء على من يشاء من عباده، وهو الجواد الكريم.
أخرج في الصّحيحين عن جابر رضي اللّه عنه قال كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بذات الرّقاع فإذا أتينا شجرة ظليلة تركناها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين (وقال البخاري هو غورث بن الحارث) وسيف رسول اللّه معلق بالشجرة، فاخترطه، فقال تخافني؟ فقال لا، فقال من يمنعك؟ قال اللّه، فتهدده أصحابه وعصمه اللّه كما عصمه من الحوادث التي ذكرناها في الآية 11 المارة، كيف وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قال تعالى: {قُلْ} يا سيد الرّسل لهؤلاء المكابرين من اليهود والنّصارى {يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ} يعتد به من الدّين ولستم على شيء مما تدعونه مما جاءكم به موسى وعيسى عليهما السّلام لأنكم غيرتم وبدلتم، وإنما أنا بريء مما أحدثتموه بعدهما في أمر دينكم {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} كما أنزلا، وتعملوا بما فيهما حقيقة، وترجعوا عن كل ما حرّفتموه وغيّرتموه منهما {وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} من الكتب الأخرى فتقيمونها أيضا على ما كانت عليه.
واعلموا أن إقامتها لا تكون إلّا بإعادتها على ما كانت عليه عند نزولها ومراعاتها والمحافظة عليها والعمل بما فيها الذي من جملته الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وكتابه الذي أنزل إليه من ربه الذي أنزل تلك الكتب على أنبيائكم الأوّل، فإذا لم تؤمنوا بمحمد وتصدقوا كتابه فلستم بمؤمنين بشيء منها، ولهذا قال تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وهو القرآن {طُغْيانًا وَكُفْرًا} زيادة على ماهم عليه لعدم الإيمان به، وإذا كانوا كذلك وأصروا على ماهم عليه فهم كفرة {فَلا تَأْسَ} يا حبيبي ولا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (67) بك وبكتابك، فإن ضرر كفرهم عليهم وإن عدم إيمانهم بك وجحدهم كتابك وعدم إقامتهم ما في كتبهم كفر، والكافر لا يعبأ به، وقدمنا في سورة فصلت الآية 42 ج 2 أن القرآن نور لأناس، ضلال لآخرين، فراجعها.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم كالمنافقين {وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ} قال في شذور الذهب رفع باعتباره معطوفا على محل ان الّذين آمنوا إلخ، لأنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك، فكأنه قيل إن الّذين آمنوا بألسنتهم من آمن منهم بقلبه إلخ فلا خوف عليهم إلخ والصّابئون والنّصارى من آمن منهم إلخ فلا خوف إلخ، وقد حذف من الثاني بدلالة الأوّل، ومثل هذه الآية من جهة أشكال الإعراب الآية 162 من سورة النّساء المارة، وهي {لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ} إلخ، فإنها نصبت على المدح، تقديره وأمدح المقيمين، وإنما قطعت هذه الصّفة عن بقية الصّفات لبيان فضل الصّلاة على غيرها.
وقرأ أبي بن كعب الصّابئين بالياء، وعلى قراءته لا أشكال في الاعراب وهناك أوجه أخرى في إعراب هاتين الكلمتين من الآيتين المذكورتين أعرضنا عنها لأنها دون ما جرينا عليه كما سيأتي، ونظير هذه الآية 62 من البقرة المارة وكذلك آية طه 63 وهي {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} فيها أشكال من حيث الاعراب بيناه فيها، فراجعه.
واعلم أن من يعرف العربية يجد لكل وجهة في الاعراب فلا يغلّط أحدا ولا ينتقد كلاما.
{وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ} إيمانا مخلصا {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وثبت على إيمانه {وَعَمِلَ صالِحًا} معه وآمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلّا به وماتوا على هذا الإيمان الجامع {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في هذه الدّنيا {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} على مافاتهم فيها في الآخرة لما يرون من نعيمها الدّائم لأنه ينسيهم الدّنيا وما فيها.
وإنما خص اليوم الآخر في هذه الآية لأن الايمان به بعد الايمان باللّه ورسوله وهو أشرف الإيمان، ومن لم يؤمن به لا يسمى مؤمنا، وإن أهل الملل السّت المبينين في الآية 17 من سورة الحج المارة ليسوا على شيء إذا لم يؤمنوا به مع الإيمان باللّه ورسوله وكتبه، لأنه أحد أصول الدين الثلاثة التي لا يقبل الإيمان إلّا بها، وقراءة كلمة الصّابئين بالرفع على الابتداء هي قراءة الجمهور من القراء وجارية على نيّة التأخير، أي والصّابئون كذلك إذا آمنوا، فقدم المبتدأ وحذف الخبر على حد قوله:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيّار بها لغريب

أي فإني لغريب وقيار كذلك، وإنما كان رفع الصّابئين مع أن الحالة تقتضي نصبها لأنهم أشد الفرق ضلالا، وسموا صابئين لأنهم خرجوا عن كلّ الأديان إلى اتباع هواهم وشهواتهم.
وحبا بمعنى خرج، وقد ذكرنا أن صاحب شذور الذهب أرى العطف على محل أن الّذين إلخ.
وقال غيره لا يصح هذا العطف ولا يجوز ارتفاع الصّابئين بالعطف على محل ان واسمها، وعلى قوله بأن العطف على المحل يصح إذا فرغ من الخبر فيجوز أن تقول أن زيدا منطلق وعمرو بالعطف على محل أو اسمها، ولا يجوز أن تقول أن زيدا وعمرو منطلقان، وقرأ أبي بن كعب وابن كثير بالنصب تخلصا من هذه الإشكالات، وهم إنما قرأوها بالتلقي لا من أنفسهم، ولذلك ينبغي قراءتها على ما هي عليه.
ونظير هذه الآية الآية 62 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 17 من سورة الحج بزيادة المجوس والمشركين قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ} على العمل بالتوراة وامتثالهم أمر رسولهم {وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} بعد موسى وهرون لا قامة أحكامها، فنقضوا الميثاق وصاروا لشدة تعنّدهم وكثرة تعنتهم {كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ} من الأحكام والأوامر والنّواهي فترى {فَرِيقًا كَذَّبُوا} بعيسى ومحمد ومن تقدمهما من الرّسل وكتبهم {فَرِيقًا يَقْتُلُونَ 70} الأنبياء كيحيى وزكريا وبعض من تقدمهم من الرّسل بغيا وعدوانا وجرأة على مخالفة أمر اللّه ورسوله.
راجع نظير هذه الآية الآية 87 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 29 من الأعراف في ج 1.
وهذا دأبهم في كتب اللّه وديدنهم في رسله، إذ يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، راجع الآية 85 من البقرة.
{وَحَسِبُوا} علموا وتحققوا، ويدل على أن معنى حسب هنا علم تعقيبا بأن المخففة من الثقيلة لأن فعل الظّن بمعناه لا يدخل على التحقيق تدبر.